روبرت فورد :
لم يكن الأميركيون يسيطرون على كل جوانب الحياة في العراق، حتى بعد سقوط صدام حسين مباشرة. وحين وصلتُ إلى النجف في نهاية أغسطس/آب 2003 لأكون ممثلاً لسلطة التحالف الموقتة بقيادة بول بريمر، كانت لا تزال هناك كتيبة من مشاة البحرية الأميركية تدير المدينة، وكان عناصر مشاة البحرية الأميركية (المارينز) يحاولون أن تقوم قوة شرطة النجف بدورها، لكن رجال الشرطة العراقية لم يكن لديهم أجهزة راديو أو هواتف. لذلك، كان رقباء المارينز يحاولون الحفاظ على قدر ولو ضئيل من خدمات الكهرباء والمياه بالإضافة إلى الخدمات الطبية وجمع القمامة. في زيارتي الأولى لمبنى المحافظة الكبير في وسط مدينة النجف، لم يكن ثمّة سوى موظفين اثنين وكانت عشرات المكاتب في المبنى خالية من الأثاث ومخلّعة الأبواب والنوافذ بعدما نُهبت في الربيع. أخبرني قائد قوة المارينز (وكان برتبة عقيد) أن الموظفين يأتون مرة واحدة فقط في الشهر لتحصيل رواتبهم البالغة مئة دولار شهريا. عرفت وقتذاك أن إعادة بناء الدولة ستمثّل تحديا هائلاً.
لم نكن نرغب في قتال طويل
كان الوضع في النجف وباقي أنحاء العراق قريبا من الانفلات والفوضى. وقد تجلت هذه الحقيقة عندما اعتقلتني مجموعة من مقاتلي “منظمة بدر” في النجف مع ضابط برتبة نقيب من مشاة البحرية تحت تهديد السلاح لمدة ثلاث ساعات في بداية سبتمبر/أيلول. وأطلق المراهقون المسلحون سراحنا أخيرا، لكن مشاة البحرية لم يفعلوا أي شيء، بل كانوا يرغبون بقوة في العودة إلى الوطن، إلى قاعدتهم في كاليفورنيا، بدلا من أن يبدأوا حربا جديدة مع “قوات بدر”. لذلك استبدلهم أحد الجنرالات، وهو إسباني، بجنود من هندوراس والسلفادور أرسلهم إلى النجف، على الرغم من أن الجنرال الإسباني لم يكن يريد محاربة الميليشيات أيضا. في أكتوبر/تشرين الأول، سمح الجنرال للميليشيات الشيعية بالعمل بحرية في النجف، دون أن يبلغوني أو يبلغوا مكتب بريمر بذلك. وحين أوقفتْ نقطة تفتيش من القوة الهندوراسية مقتدى الصدر في سيارته في أواخر أكتوبر/تشرين الأول، كان ذلك فرصة لاعتقاله وعرقلة انتشار “جيش المهدي”، لكن الهندوراسيين أطلقوا سراحه على الرغم من احتجاجاتي
فشلنا في إقناع السنّة أو إجبارهم على المخاطرة بالتصويت. وقد قاطع معظمهم بالفعل انتخابات يناير/كانون الثاني 2005، وكان تمثيل العرب السنّة في لجنة الدستور الجديد ضعيفا للغاية، وهو أحد أسباب مشاكل الدستور الحالي حتى يومنا هذا
لم يكن فهمنا في المستوى المطلوب
كانت إدارة بوش تعتقد بشكل أعمى أن قيمها صالحة لكل مكان وزمان، لذلك يمكنها فرض التغييرات التي تريد، من إصلاح أسواق رأس المال إلى نشر الأفكار الغربية حول حقوق المرأة في نظام قضائي جديد. لم تفهم سلطة الاحتلال مدى اختلاف القيم العراقية وتوقّعات العراقيين. واندلعت، في مدن مختلفة في العراق، بما في ذلك النجف والرمادي، تظاهرات حاشدة بدأها في خريف عام 2003 الشبان العراقيون الباحثون عن عمل. وحين عُقد اجتماع كبير مع بول بريمر وقادة الجيش الأميركي في أكتوبر/تشرين الأول، طالبتُ بإعداد برنامج الأشغال العامة لمنح الشباب بعض الأمل. وافقني في ذلك بقوة زميلي الديبلوماسي الأميركي في الرمادي، كيث ميلنز، غير أن بريمر رفض الفكرة دون أن يناقشها حتى، وقال إن الأميركيين لم يأتوا إلى العراق لبناء اقتصاد اشتراكي. لذلك لم تكن مفاجأة لأحد أن تشتعل النيران في الرمادي والأنبار من جانب، في نهاية عام 2003، بينما كان “جيش المهدي” يتوسع بسرعة في النجف وكربلاء ومدن أخرى في جنوب العراق.
حدود القوة العسكرية
كان في إمكان قوات الأمن الأميركية بالتأكيد أن تحلّ بعض المشاكل الأمنية، لكن ذلك لم يمنحنا قوة سياسية كالتي كنا في حاجة إليها، فقد وضع بريمر وفريقه، بمن في ذلك ميغان أوسوليفان، التي تشغل حاليا منصب عميد في كلية كينيدي في جامعة هارفرد، والمحامي بريت ماكغورك، الذي يعمل حاليا في إدارة الرئيس بايدن، خططا سياسية ودستورا موقتا، كانت بلا شك إنجازات فكريةً ممتازة، لكنها ببساطة غير مناسبة لظروف العراق. على سبيل المثل، قرر الأميركيون أن يتم اختيار العراقيين الذين سيكتبون الدستور الدائم للبلاد بالتشاور بين النخب السياسية المحلية، وأصر المرجع علي السيستاني على ضرورة إجراء انتخابات وطنية لاختيار الممثلين في البرلمان الانتقالي الذي سيعدّ الدستور. أتذكر زميلي في كربلاء، وهو ديبلوماسي أميركي من المفترض أن يكون متخصصا في العلاقات العامة، وهو يصرّح علانية في كربلاء في نوفمبر/تشرين الثاني 2003 أن السيستاني كان مخطئا وأنه ستكون هناك مشاورات فقط. وجاء الردّ من خلال تظاهرات كبيرة في كربلاء ومدن أخرى، ما جعل الأميركيين يضطرون إلى التراجع وقبول الانتخابات التي جرت في يناير/كانون الثاني 2005. وكانت تلك آخر مرة نتحدّى فيها السيستاني.
مع ذلك، لم تتراجع الأفكار الأميركية الغريبة حول السياسة العراقية، فتضمن الدستور الموقت – الذي كتبه بريت ماكغورك وزملاؤه وفرضوه في عام 2004 – انتخاباتٍ وطنية واستفتاءً على الدستور في عام 2005 بالإضافة إلى حلّ مشكلة كركوك. كان ذلك الجدول الزمني غير واقعي أبدا. وبينما كان الجيش الأميركي يكافح للسيطرة على التمرد المتوسع في المجتمعات السنية والشيعية في عام 2004، حذّرت السفارة الأميركية الجديدة واشنطن من أن العرب السنة لن يصوتوا في انتخابات يناير/كانون الثاني 2005. وتعقد الوضع الأمني بشكل خطير بعدما قال تنظيم “القاعدة” إنه سيقتل كلّ من يتوجه إلى صناديق الاقتراع ويدمر مراكز التصويت. ورفض الرئيس بوش توصيتنا بتأجيل الانتخابات إلى ما بعد يناير/كانون الثاني 2005. بدلا من ذلك، اجتمعتُ مع الفريق المسؤول عن العراق في وزارة الخارجية بواشنطن عبر اتصال فيديو سري في وقت متأخر من إحدى الليالي، حيث قدّم لي الفريق أفكاره حول كيفية إدارة الموقف. واقترحوا أن يصوت العراقيون في مدن مثل الأنبار من طريق الهاتف المحمول، حيث يستخدم الناخبون العراقيون كلمة مرور شخصية ثم يطلبون رقما محددا للتصويت لمرشح. لم أكن قد سمعت بمثل هذا الشيء من قبل، وسألت عما إذا كان الناخبون في مكان مثل كاليفورنيا – أمّ التكنولوجيا – يصوتون عبر الهاتف. اعترف الموظفون في واشنطن أن الناخبين الأميركيين لم يكونوا يصوّتون عبر الهاتف، ولم يتمكنوا من الإجابة عن سؤالي لماذا يقبل العراقيون شيئا لا يقبله الأميركيون. ثم اقترح الفريق أن في إمكان العراقيين التصويت من طريق الكومبيوتر بالدخول إلى موقع خاص بالانتخابات. ذكّرتهم بأن الناس في الأنبار لا يمكنهم التصويت بالكومبيوتر لأنه لم يكن هناك كهرباء! انتهى اجتماع الفيديو بشعور الجميع بالإحباط. بعد عشرين دقيقة رنّ هاتفي ووبّخني مدير مكتب العراق في وزارة الخارجية لعدم تعاوني. وفشلنا في إقناع السنّة أو إجبارهم على المخاطرة بالتصويت. وقد قاطع معظمهم بالفعل انتخابات يناير/كانون الثاني 2005، وكان تمثيل العرب السنّة في لجنة الدستور الجديد ضعيفا للغاية، وهو أحد أسباب مشاكل الدستور الحالي حتى يومنا هذا.
القوة العسكرية ليست دائما قوة سياسية
في تلك الأثناء، كان العنف يتصاعد في العراق، وجاء الردّ العسكري الأميركي صاعقا وإن لم يكن فعالا في البداية. لم نفهم كيف كان العراقيون يخافون بعضهم بعضا ويخافون الأميركيين أيضا. ارتكب الأميركيون انتهاكات جسيمة، كما حدث في أبو غريب، وأسوأ من ذلك ما وقع في الحديثة عام 2005. اعتقلت قواتنا عشرات الآلاف من العراقيين، في كثير من الأحيان دون سبب، ووضعنا معظم المعتقلين في معسكر سجن يسمى بوكا. هكذا جمعنا المتطرفين ووضعناهم عن غير قصد في مكان واحد، حتى أصبح سجن بوكا “جامعة للجهاد”، تخرّج منها أبو بكر البغدادي وأبو محمد الجولاني (اللذان أسسّا في ما بعد “جبهة النصرة” في سوريا). في الوقت عينه كانت قوات الأمن العراقية التي كان الجيش الأميركي يبنيها، ترتكب بدورها انتهاكات أخرى فظيعة لحقوق الإنسان. في أواخر عام 2005 اكتشفنا سجن الجادرية الذي كان أسوأ بكثير من سجن أبو غريب، وأخذنا أدلة على تورط وزارة الداخلية وقدّمناها إلى رئيس الوزراء الجعفري الذي رفض معاقبة أي مسؤول. تذمر الأميركيون لكنهم استمروا في تقديم مليارات الدولارات إلى الجيش والشرطة العراقيين. في حلول عام 2011، كنا أنفقنا أكثر من 25 مليار دولار على إعادة بناء الأمن العراقي.
أراد الأميركيون أن يُظهروا للحكومة العراقية أننا ملتزمون النجاح في العراق. وعرف العراقيون كيف يستغلون هذا الالتزام الأميركي. عندما أمر الرئيس بوش بعد انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2005 سفارتنا بإزاحة الجعفري من رئاسة الوزراء، قمت أنا والسفير زلماي خليل زاد بزيارته في وقت متأخر من إحدى الليالي في مارس/آذار 2006 لنقل الأخبار إليه. في نقاش مهذب وصعب استمر ثلاث ساعات مع العديد من أكواب الشاي الحلو، رفض الجعفري بعناد الاستقالة وتعهد بأنه سيفوز بتأييد غالبية أعضاء البرلمان الجديد ليظل رئيسا للوزراء. خرجنا من الاجتماع متعبين ومحبطين وعدنا إلى مكتب خليل زاد حيث خبط خليل زاد على مكتبه بغضب وسأل كيف يمكن للجعفري أن يرفض الطلب الأميركي، ونحن لدينا 150 ألف جندي في البلاد. قلت له الجواب البسيط: كان الجعفري يعلم أننا لن نسحب جنودنا ونعترف بالفشل.
لم يستطع خليل زاد أن يفرض رأيه، لكنه كان يستطيع المناورة. وشجع منافسي الجعفري الشيعة الطموحين على الترشح ضدّه لمنصب رئيس الوزراء. وأعدّ مكتبنا السياسي في سفارتنا قائمة بخمسة سياسيين شيعة اعتقد العديد من خبرائنا في السياسية العراقية أنهم يمكن أن يفوزوا بموافقة البرلمان. من بين الخمسة، كان خليل زاد يحب نوري المالكي أكثر من غيره. كان يعتقد أن المالكي سيكون مستقلاً عن إيران. وعقدنا العديد من الاجتماعات شربنا فيها المزيد من أكواب الشاي الحلو، وضغطنا بشدة لإقناع السياسيين العراقيين بدعم المالكي الذي أصبح رئيسا للوزراء في مايو/أيار 2006. وكان خليل زاد قد استغل الانقسامات داخل المعسكر الإسلامي الشيعي لإلحاق الهزيمة بالجعفري. لقد كان ذلك انتصاراً سياسياً على المدى القصير للأميركيين، لكن العراقيين دفعوا ثمناً باهظاً على المدى الطويل.
تمتع الأميركيون أيضا بنجاح أمني قصير المدى بدءا من عام 2008، لكن التأثير السياسي كان دائما محدودا. بدأ الجنرال بترايوس يدفع رواتب الشباب العرب السنّة لتجهيزهم لمحاربة “القاعدة” في أحيائهم بمساعدة الجنود الأميركيين. ساعد هذا البرنامج الذي أطلق عليه الأميركيون اسم “أبناء العراق”، في الحدّ من العنف في الأجزاء العربية السنية من العراق، إلى جانب استكمال الكثير من عمليات التطهير العرقي في أحياء بغداد. مع ذلك، كان للمالكي أجندته السياسية الخاصة، ورفض مع مستشاريه طلباتنا بالموافقة على دفع رواتب مقاتلي “أبناء العراق” وإعطائهم وظائف في القوات الأمنية التي كنا نمولها، واستمرّ الأميركيون في التوسّل. لم يكن رئيس الوزراء يثق في جهاز المخابرات العراقي الذي دعمته وكالة الاستخبارات المركزية وبدأ ببناء عملية استخباراتية موازية مع شيروان الوائلي. كنا أيضا نراقب ذلك ونتقدم بهدوء، لكننا لم نحاول منع المالكي من إحكام سيطرته على قوات الأمن العراقية. وعندما ألقت قوات العمليات الخاصة الأميركية القبض على بعض قادة “جيش المهدي” في ابريل/نيسان عام 2009، غضب رئيس الوزراء، لأن علاقاته بـ “الصدريين” كانت جيدة.
تأثير يتضاءل بسرعة
في حلول عام 2009، كان من الواضح أن الرئيس أوباما سيسحب القوات الأميركية من العراق ما لم يحصل على ضمانات الحصانة للجنود. كانت الحصانة مستحيلة سياسيا في بغداد، خاصة بعد المذبحة المروعة التي ارتكبها حراس شركة “بلاكووتر” في ميدان النصر عام 2007. ومع تناقص أعداد القوات الأميركية، اضطررنا لإغلاق مراكز الاعتقال والإفراج عن آلاف السجناء. أثار أحد السجناء، قيس الخزعلي، زعيم “عصائب أهل الحقّ”، قلقا خاصا لدينا، فقد قتلت الميليشيا الخاصة أميركيين وبريطانيين. رفضنا إطلاق سراحه بناء على طلب حكومة المالكي دون ضمانات بأن العراقيين سيبقونه رهن الاعتقال. لم يكن لدى المالكي مثل هذه النية، لأنه كان منهمكا في بناء قاعدته السياسية للانتخابات المقبلة. أدرك المالكي أنه يستطيع الانتظار ببساطة. وأخيرا، بعدما أيقنّا استحالة الحصول على تنازلات من المالكي، أطلق الأميركيون سراح الخزعلي في صفقة تبادل لقاء إطلاق رهينة بريطاني في يناير/كانون الثاني 2010. الخزعلي الآن أحد أكبر زعماء الميليشيات والقادة السياسيين الذين يضايقون الأميركيين في العراق.
كان آخر استعراض كبير للنفوذ الأميركي في العراق قبل انسحاب القوات هو دعم واشنطن المالكي لولاية أخرى بعد انتخابات مارس/آذار 2010. كانت نتيجة الانتخابات في الأساس متساوية بين المالكي وصديق الولايات المتحدة القديم أياد علاوي. كنا نعلم طائفية المالكي وفساده وترسيخ سلطته بما يخالف الدستور، مع ذلك، أرادت إدارة أوباما إنهاء المفاوضات حول مستقبل القوات الأميركية، وقررت أن المالكي، وليس علاوي، هو من لديه أفضل فرصة لتشكيل الحكومة والحصول على موافقة البرلمان بسرعة. حصل المالكي على دعم الصدريين أولاً. ثم ضغطت السفارة الأميركية على رئيس المنطقة الكردية المتشكك مسعود بارزاني لدعم المالكي الذي بدأت ولايته الجديدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2010. لم يبدِ المالكي امتنانا للمساعدة الأميركية ولم يقدم أي تنازلات في شأن القوات الأميركية. قبل أوباما بسرور رفض المالكي، وغادر آخر الجنود الأميركيين العراق في ديسمبر/كانون الأول 2011. وتحول اهتمام واشنطن من العراق إلى الانفجارات في مصر وليبيا وسوريا.
بدأت الانفجارات في العراق أيضا. وردّاً على طائفية المالكي، بدأت مدن مثل الفلوجة والرمادي والحويجة احتجاجات ضده بعد أقل من عام على رحيل الجنود الأميركيين. وبدون أن يدروا، خلق الأميركيون مشكلة أخرى مع برنامج “أبناء العراق”. كان الجيش الأميركي قد ميّز بين أبناء قبائل الأنبار من حيث إدخالهم في برنامجه للوظائف والمال، إذ حصلت بعض العشائر والقبائل على الوظائف ومساعدات إعادة الإعمار الأميركية بينما لم تحصل العشائر والقبائل الأخرى على أي شيء. استغل تنظيم “داعش” الاستياء من هذا التمييز الأميركي، ومن طائفية المالكي، للسيطرة على الفلوجة في يناير/كانون الثاني 2014. ثم استولى على الموصل بسهولة في يونيو/حزيران 2014، مستغلّا الفساد داخل قوات الأمن العراقية الذي رآه الأميركيون بأم أعينهم، واستنكفوا عن التصدّي له.
مع اقتراب مقاتلي “داعش” من العاصمة العراقية في صيف 2014، أنتجت الورقة الأخيرة لإدارة أوباما نجاحا قصير المدى لكنها فشلت في ترك تأثير بعيد الأمد. فقد اشترط أوباما على بغداد إخراج المالكي من الحكم إن هي أرادت تدخل الولايات المتحدة العسكري ضدّ “داعش”، وسرعان ما أصبح حيدر العبادي رئيساً للوزراء في حالة من الطوارئ، وتعاون كلٌّ من القوات الجوية الأميركية ومقاتلي العمليات الخاصة بشكل غير مباشر مع الميليشيات التي تعمل بالوكالة عن إيران ضد العدو المشترك: “داعش”. لكن النتيجة أن الأميركيين ورؤساء الوزراء العراقيين لا يستطيعون جميعا السيطرة على تلك الميليشيات الموالية لإيران. في تلك الأثناء، كان أصدقاء أميركا في أربيل، مثلهم مثل أياد علاوي، قد تعلّموا أنهم لا يستطيعون الاعتماد على الصداقة الأميركية، حيث كانت واشنطن قد نددت بالاستفتاء حول استقلال الإقليم الكردي، ولم توقف سيطرة الجيش العراقي على كركوك واسترجاعه من أيدي البيشمركة. اتضحت نقاط ضعف أربيل الاقتصادية وأصبح الاستفتاء كارثة للمنطقة الكردية التي تعد أكثر أجزاء العراق ودّا تجاه الأميركيين.
مستقبل النفوذ الأميركي
لا يزال لدى الأميركيين 2500 جندي في العراق يقومون بتدريب قوات مكافحة الإرهاب العراقية المعرّضة للهجوم من الميليشيات الموالية لإيران وحتى للصواريخ البالستية الإيرانية. وكان مقتل قاسم سليماني في يناير/كانون الثاني 2020 أدّى إلى تقليص سيطرة إيران على الميليشيات العميلة لها في العراق وسوريا، وعادة ما يكون هناك نوع من الهدنة بين واشنطن وإيران. ترحب الحكومة العراقية ببرنامج التدريب الأميركي الصغير لاحتواء “داعش” وضمان بعض الدعم الأميركي لبغداد. وقبلت طهران، بشكل غير مباشر، برنامج التدريب الأميركي. لكن الهدنة بين إيران وأميركا في العراق قد تنتهي فجأة، وقد رأينا بالفعل انفجارا جديدا الشهر الماضي في سوريا.
لا تريد بغداد أن تكون في وسط الصراع الأميركي الإيراني، لكنها في الواقع لا تستطيع الهروب من ذلك. على سبيل المثل، بدأت إدارة بايدن، ردّا على البرنامج النووي الإيراني، بتقييد تدفق الدولارات المكتسبة من مبيعات النفط العراقي المتوجهة إلى بغداد من أجل منع وصول الأموال من العراق إلى إيران. وانخفض سعر صرف الدينار بشكل حاد، ويواجه المستهلكون العراقيون الآن ارتفاعا في الأسعار. وفي الوقت الحالي، لا خيار أمام العراق: لا يزال سوق النفط يستخدم الدولار. لكن في عالم متعدد القطب، من المحتمل أن يتذكر العراق هذه التجربة المريرة للدولار ويلجأ إلى دول مثل الصين والهند لمشاريع الطاقة والبنية التحتية، بدل شركات مثل “بكتل” و”جنرال إلكتريك”.
مع ذلك، ثمّة ما يمنحني بعض الأمل. في موقع قصر صدام حسين السابق بالقرب من مطار بغداد الذي كان في السابق مقرّا للجيش الأميركي، هنالك مشروع جديد قد نشأ، جامعة أميركية جديدة تستخدم منهجا حديثا وستفتح لاحقا مدرسة طبية ومستشفى على الطراز الأميركي. إذا كانت تلك الجامعة تتمتع بحرية العمل كمنشأة تعليمية مستقلة خالية من الفساد والتدخل الحكومي، فيمكنها، جنبا إلى جنب مع جامعات على الطراز الأميركي في السليمانية ودهوك، مساعدة الجيل العراقي الجديد الذي لم يعرف صدام حسين قط، على تغيير العراق الحديث بشكل تدريجي. اليوم، عندما ألقي نظرة على الأعوام العشرين الفائتة من الجهود الأميركية في العراق، أستنتج أن القوة الناعمة الأميركية، لا القوة الصلبة، هي أكثر ما يمكن أن يساعد العراق والمنطقة.