كان “مشروع بابل” مدفعاً خارقاً وعملاقاً، لدرجة أنه بعد تجميع أجزائه، سيكون أكبر مدفع صنعه البشر على الإطلاق، ومن المفروض أن يزن 1510 أطنان، “وحش معدني” لا يمكن تحريكه أبداً، وكانت الخطة وضعه على سفح تل في العراق بزاوية 45 درجة، ليطلق قذائف يصل مداها لمئات الكيلومترات.
لكن الموساد الاسرائيلي لم يكن ينوي أن يترك صدام حسين يحصل على مثل هذا المدفع، حتى لو كان لأغراض سلمية مثل إطلاق الأقمار الصناعية إلى الفضاء، وحتى لو كان ذلك يعني اغتيال العقل المدبر وراء “مشروع بابل”، والذي يحمل الجنسية الكندية.
مدافع لأهداف سلمية سبقت مشروع بابل
قبل أن تظهر فكرة “أكبر مدفع في العالم” للوجود، كان “جيرالد بول” عالم الفيزياء وخبير الصواريخ، يعمل مع جيش الولايات المتحدة ووزارة الدفاع الكندية في أنظمة الدفع الصاروخي، عام 1962. حين أدرك أنه يمكن أيضاً إطلاق أقمار صناعية أو أجهزة مراقبة طقس فضائية، من فوهة مدفعية، وستبقى سليمة.
لقد افترض بول أن المدفع الخارق يمكن أن يحل محل المرحلة الأولى على الأقل من إطلاق الصواريخ التي تحمل الأقمار الصناعية، والتي تتطلب دائماً أكبر قدر من القوة ومعظم الوقود والكثير من المال.
فكانت النتيجة، مدفع “HARP” العملاق، من خلال لحام زوج من مدافع بارجة حربية، لتشكيل أنبوب إطلاق يبلغ طوله حوالي 30 متراً. تم استخدام المدفع لإطلاق مقذوفات يبلغ وزنها 85 كغم لتصل إلى ارتفاع 180 كم.
ومع بداية الحرب في فيتنام عام 1967، تخلت الحكومة الأمريكية عن مشروع Harp، لكن فكرة بناء أكبر مدفع في العالم بقيت تشغل تفكير بول، ولم تشارك معظم الحكومات في جميع أنحاء العالم حماسه لبناء مدفع يمكن أن يرسل معدات إلى الفضاء الخارجي، لكنهم كانوا مهتمين بخبرته الأخرى، وهي بناء أسلحة مدمرة.
التعاون مع صدام حسين لتصنيع “مشروع بابل”
قطع بول علاقته بالبنتاغون في السبعينيات وأنشأ شركات واتفاقيات لبيع نسخ محسنة من التكنولوجيا التي طورها للاستخدام العسكري، لعدد من الحكومات الأجنبية، بما في ذلك إيران وتشيلي وتايوان. من خلال العمل من خلال شركته الخاصة في كيبيك.
في عام 1981، بحسب موقع “البي بي سي” اتصلت الحكومة العراقية ببول وكان صدام حسين يريد منه تصميم مدفعية يمكن استخدامها في الحرب العراقية الإيرانية.
وفي ذلك الوقت، لم يكن العمل مع العراق قراراً غريباً؛ لأنه لم يكن يمثل تهديداً للغرب. ولم تكن علاقة العراق سيئة مع الولايات المتحدة، وأراد صدام حسين أيضاً تأسيس برنامج الفضاء، لذلك كان تصميم بول يمكن أن يحقق ذلك الهدف أيضاً.
أخيراً، في عام 1988، دفعت الحكومة العراقية 25 مليون دولار لبدء مشروع بابل، أول مشروع مدفع فضائي حقيقي، كانت أسطوانة الإطلاق في مدفع “مشروع بابل” بالحجم الكامل يبلغ طولها 156 متراً، وتجويفها بقطر متر واحد.
في المجموع، كان من الممكن أن يزن 1510 أطنان؛ أكبر بكثير من أن يكون قابلاً للنقل، ولذا بدلاً من ذلك كان من الممكن تركيبه بزاوية 45 درجة على سفح جبل أو تل.
وأكد بول أن صدام حسين كان ينوي استخدام مشروع بابل، لأغراض برامج الفضاء وليس سلاحاً تدميرياً، بالإشارة إلى أنه سيكون سلاحاً غير عملي. لأن حجمه العملاق يعني أنه لن يكون من الممكن تحريك المدفع بمجرد بنائه وتثبيته؛ وكان سيشير فقط في اتجاه واحد.
ويمكن تحديد موقعه وتدميره بسهولة إذا رغب أي شخص في ذلك، وسيعرف الجميع على الفور ما إذا كان قد تم إطلاقه، من الهزات الزلزالية التي يمكن أن تسببها عملية الإطلاق. فقد كانت قوة الارتداد من المدفع ستبلغ 27 ألف طن؛ أي ما يعادل انفجاراً نووياً، وكان من الممكن تسجيلها كحدث زلزالي كبير من جميع أنحاء العالم.
لكن حسين كامل المجيد صهر صدام حسين، والذي أشرف على برنامج تطوير الأسلحة العراقية، صرح بعد أن هرب إلى الأردن وانشق عن صدام حسين: “كان الهدف منه هجوماً بعيد المدى وأيضاً لتعطيل أقمار التجسس الصناعية. كان علماؤنا يعملون بجدية على ذلك. لقد تم تصميمه لتفجير قذيفة في الفضاء من شأنها أن ترش مادة لاصقة على القمر الصناعي وتعطيله”.
اغتيال “جيرالد بول” ونهاية مشروع بابل على يد الموساد
في 22 مارس/آذار 1990 قُتل جيرالد بول خارج شقته في إحدى ضواحي بروكسل على يد مجهولين أطلقوا عليه خمس رصاصات من مسدس كاتم للصوت في رقبته وظهره ثم لاذوا بالفرار.
وعلى الرغم من عدم تحمل أي جهة مسؤولية العملية بشكل رسمي، ومع ذلك، بحسب صحيفة الواشنطن بوست فقد أعلن مسؤولون استخباراتيون إسرائيليون كبار مسؤوليتهم عن عملية قتل جيرالد في بول. بسبب مشروع بابل ولمنع العراق من امتلاك أكبر مدفع في العالم.
وبحسب الصحيفة، تركزت المخاوف الإسرائيلية على محاولة بول لبناء “مدفع خارق” قد يطلق قذائف برؤوس حربية كيميائية أو بيولوجية أو ذرية مئات الأميال داخل إسرائيل من العراق.
قال قائد المدفعية الإسرائيلي الأسبق أفراهام بار ديفيد: “إن المدفع العملاق يناسب ترسانة صدام حسين بشكل مثالي. ليس لديهم تفوق جوي على إسرائيل، الحل الذي يمكن أن يحصلوا عليه هو المدفع العملاق. وسوف يضرب أهدافاً استراتيجية مثل إسرائيل”.
قبل مقتل بول كانت قطع مشروع بابل جاهزة للشحن عبر أوروبا، وكان قد اقترب فعلاً من بناء أكبر مدفع في التاريخ، ورتب بول للعراق لتوقيع عقود مع عدة جهات وشركات أوروبية لتوريد قطع مشروع بابل.
وكان جيش العراق قد اجتاح الكويت، وبدأت حرب الخليج، وأعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وعدة دول أخرى الحرب على العراق، فكانت تلك فرصة لمنع صدام حسين من الحصول على أكبر مدفع في العالم.
فاستولت الجمارك البريطانية على 8 قطع من المدفع، وبعد دخول مفتشي الأمم المتحدة للعراق، دمرت تلك الفرق النماذج التجريبية الأصغر لمدفع مشروع بابل، ولم يتبقّ من مشروع بابل سوى الأجزاء المعروضة في متحف الحرب الإمبراطوري في بريطانيا.