الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب المولود في عام
(1926 – و اللي توفى في عام 1964)
كان في ايامه الاخيرة يعاني الموت البطيء, بسبب المرض الذي ارهق جسمه النحيل و ايضا بسبب اليأس اللي تملكه نتيجة لعجزه عن تأمين المصاريف اللي يتطلبها علاجه و العناية بحالته .
كان في الغربة و قد تخلى عنه اغلب اصدقائه و محبيه
و كانت بداية معاناة السياب مع المرض في الاشهر الاولى من عام 1961 بدأ مرضه بشعوره بخدر في الأطراف السفلى, فكان لا يستطيع تحريك رجليه إلا بصعوبة.
في البداية كان تشخيص المرض على انه مرض فقر الدم. , لكن بعد شهور قليلة بدأ يشعر انه يذبل تدريجيا و ان الموت اصبح قريبا منه .
حاول ان يستبق حالته المتدهورة , بمراجعة عيادات الاطباء , لكن النصيحة كانت بضرورة الخضوع لعلاج سريري يستوجب مكوثه في المستشفى لفترة كافية بهدف الوصول الى التشخيص الصحيح .
لذلك سافر الى بيروت في الثامن عشر من نيسان 1962, و دخل الى مستشفى الجامعة الأمريكية هناك, وبعد معاينته سريريا من قبل اطباء متخصصين , كان تشخيص المرض على انه (مرض في الجهاز العصبي, مع أعراض تصلب جانبي ضموري),
وبعد أن خرج من مستشفى الجامعة الأمريكية, أخذ يتردد على عيادة طبيب ألماني مقيم في بيروت اسمه (زويتش)
ثم سنحت له فرصة السفر إلى لندن, أرسلته المنظمة العالمية لحرية الثقافة التي كانت تتكفل بنفقات دراسته كطالب في الجامعة, حيث كان يهتم بدراسة الأدب المقارن.
وصل السياب الى لندن في منتصف الشهر الاخير من عام ١٩٦٢ , و كان يمنى النفس بأغتنام فرصة عظيمة لمراجعة اطباء كبار عسى ان يجدوا حل و علاجا ا لمشاكله الصحية,
لكن لندن كانت باردة ولاتكترث بمريض مفلس , لذلك كان يتعذر عليه حتى شراء الدواء الضروري لعلاجه او لتسكين آلامه , لذلك حاول الاستنجاد بالزعيم عبد الكريم قاسم , فأطلق في تلك الفترة نداء استغاثة موجه اليه بعنوان ( أقتني يا زعيمي ) , لكن ذلك النداء لم يجد له آذانا صاغية
و بعد ان استبد به اليأس و اغلقت الابواب بوجهه , لم يجد أمامه سوى العودة الى العراق , فعاد في يوم ١٥ اذار من عام ١٩٦٣ , الى أهله و قريته جيكور مستسلما لقدره , و ظل على هذا الحال لعام و نصف العام , يائسا حزينا لا يملك سوى قصائده و كانت آخر قصائده في تلك الفترة قصيدة (سفر أيوب ) :
——
٢
لك الحمدُ مهما استطالَ البلاءُ .. ومَهْما استبدَّ الألمْ,
لك الحمد إنّ الرزايا عطاءٌ .. وإن المصيباتِ بعضُ الكَرَمْ
ألم تعطني أنت هذا الظلام? … وأعطيتني أنت هذا السحر?
فهل تشكر الأرض قطر المطر? أتغضب إن لم يجدْها الغمام?
شهور طوال, وهذه الجراح … تمزّق جنبيَّ, مثل المدى!
ولا يهدأ الداء عند الصباح …. ولا يمسح الليل أوجاعه بالردى
——————————
——————————
٣
عندما كان السياب في بريطانيا يتعالج في مستشفى مدينة دورهام , نشرت مجلة الحوادث البيروتية مقالا للكاتب الياس سحاب , يصف فيه حال السياب وهو يعاني من الاهمال و العوز و الموت يتهدده ,
فقرأ المقال شاعر كويتي أسمه علي السبتي , كان السبتي من أشد المعجبين بالسياب و شعره و حدث ان التقاه يوما ما في البصرة فزاد اعجابه و تقديره للشاعر فصار من اصدقائه المقربين , فكيف به وهو مهمل في مستشفيات الغربة .
تالم السبتي كثيرا للحال الذي وصل اليه السياب , فكتب مقالا في مجلة (صوت الخليج) الكويتية
طلب فيه من وزير الصحة الكويتي أن يتبنى علاج السياب في المستشفيات الكويتية, فاستجاب الوزير لطلبه طالبا من السبتي عنوان السياب للاتصال به و التنسيق معه لترتيب قدومه الى الكويت , في تلك الاثناء كان السياب قد عاد الى العراق , فلم يفلح السبتي بالعثور عليه في بريطانيا , لكن حصل بعد فترة قصيرة , ان زار الشاعر الكويتي علي السبتي مدينة البصرة فعلم أن السياب يرقد في المستشفى الجمهوري بالبصرة , فأسرع للقائه و وجد حالته الصحية تدعو للاسف فلا اهتمام و لاعلاج و لا نظافة كان كشجرة مهملة يبست أوراقها
فعرض عليه الانتقال إلى مستشفيات الكويت, فوافق السياب على الفور, فتم ترتيب نقله بسرعة بمساعدة وزير الصحة الكويتي فتم نقله من البصرة الى الكويت في يوم ٦ تموز من عام ١٩٦٤ وكان في استقباله صديقه الشاعر الكويتي علي السبتي, و ناجي علوش, و الشاعر المصري فاروق شوشة,
فور وصوله الى المستشفى بالكويت , تم تشكيل لجنة طبية خاصة للإشراف على علاج السياب بعد دراسة تقاريره الطبية التي جلبها بصحبته و هي تقارير مستشفيات دورهام البريطانية و تقارير فرنسية بالاضافة الى تقرير المستشفى الجمهوري بالبصرة و جميعها تشير الى وضعي الصحي الحرج , لذلك ارتأت اللجنة الطبية نقله الى أفضل مستشفيات الكويت و هو المستشفى الاميري لان السياب يحتاج الى اجراء عملية جراحية سريعة و دقيقة .
أشرف على علاج السياب طبيب مصري مختص بالأمراض الباطنية هو د.محمد أبو الشوك, وكان يساعده طبيب كويتي هو د.عبدالله مبارك الرفاعي.
كان السياب يعاني شللاً نصفياً لسببين, أولهما, مرضه المزمن, والثاني عامل وراثي لأن هناك أفرادا من عائلته, أصيبوا بذات المرض الذي يعاني منه .
———————–
٤
كان السياب بسبب طبيعته الشفافة المرهفة , يعيش في حالة حب دائمة حتى وهو في اعقد مراحل المرض .
يروي الشاعر الكويتي علي السبتي ان السياب حدثه مرة , عن واحدة من علاقاته النسائية, عن ممرضة لبنانية اسمها (ليلى) تعرّف عليها عندما رقد ذات مرة في مستشفى بيروت, وكانت ليلى هي الممرضة المسئولة عن علاجه.و كانت تعطف عليه و تهتم به , ويبدو ان السياب قد فهم هذا الاهتمام على انه حب , يقول السبتي , اخبرت بدر وهو راقد في المستشفى الأميري, بأنني ذاهب إلى بيروت لفترة قصيرة , فطلب مني أن ازور مستشفى بيروت و أن أسلّم له على ليلى الممرضة التي يحبّها وتحبّه!
يقول سافرت الى بيروت و ذهبت الى مستشفاها للقاء الممرضة ليلى , حيث طلب منها ان تتجاوب مع السياب وتشاركه المشاعر لان السياب يقضي ايامه الاخيرة وهو بحاجة الى مايبعث فيه التفاؤل و الفرح .
لم تستجب ليلى في البداية لطلبه و ابلغته ان علاقتها بالسياب ليست سوى علاقة ممرضة بمريض , لكن الحاح السبتي و ترجيه , افلحا باقناع ليلى بكتابة رسالة ودية للسياب تبلغه فيها اشتياقها له و تطلعها للقائه بعد تعافيه .
في اليوم التالي عاد السبتي الى الكويت و ذهب لزيارة السياب , حال دخوله في غرفته , بادره السياب بالسؤال عن ليلى و هل قابلها ؟ و ما اخبارها ؟
يقول علي السبتي ابتسمت و قلت له هذه قبلتي اولا , و هذه قبلة ثانية , طلبت مني ليلى ان اطبعها على جبينك .
فرح بدر كثيرا بهذا الكلام, وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة وطلب مني ورقة,ثم بدا على الفور بكتابة قصيدة عنوانها (ليلى) , كانت من أجمل قصائده الغزلية
——-
٥
قرِّبْ بعينيك منّى دون إغضاء | وخلِّني أتملَّى طيف أهوائي | |
أبْصَرْتَها? كانت الدنيا تفجّر في | عينيك دنيا شموس ذات آلاء | |
أبْصَرْت ليلى فلُبْنان الشموخُ على | عينيك يضحك أزهارا لأضواء | |
إني سألثمها في بؤبؤيك كَمَنْ | يُقبِّلُْ القمرَ الفضيّ في الماء | |
ليلى هواي الذي راح الزمانُ به | وكاد يفلتُ من كفّيَّ بالداءِ | |
حنانها كحنان الأم دثّرني | فأذهب الداء عن قلبي وأعضائي |
——————-
٦
بحلول خريف عام ١٩٦٤ , اشتد المرض على السياب , فبدأ يهلوس تارة و يلقي القصائد تارة اخرى , و كان اليأس يدفعه للاستنجاد بمن يعتقده قادرا على نجدته , فمن الاستغاثة بالامام علي رضي الله عنه , الى أمير الكويت عبد الله السالم الصباح , طالبا منه إرساله إلى سويسرا لتلقي العلاج هناك, لأنه علم بأن هناك أطباء أكفاء باستطاعتهم إنقاذه من المرض .
مع ادراك السياب بقرب موته , كان يتخيل صورة حفار قبره, بل يسمع صوت معوله وهو يضرب الارض موثقا هذه الصورة الشعرية في قصيدته الاخيرة .. الوداع :
رنين المعول الحجري في المرتجَّ من نبضي
يُدمر في خيالي صورة الأرض,
ويهدم برج بابل,ويقلع الأبواب,يخلع كل آجّرة,
ويحرق من جنائنها المعلّقة الذي فيها, فلا ماء, ولا ظلٌّ, ولا زهرة,
وينبذني طريدًا عند كهف,ليس تحمي بابَه صخرة.
ولا تدمي سواد الليل نارٌ,فيه تحييني وأحييها
وداعا يا أحبائي.
———————
٧
في يوم ١٨ ديسمبر كانون الاول عام ١٩٦٤ , قبل رحيل السياب بستة أيام فقط, وصلت الى مكتب جريدة ( كل شيء ) البغدادية , رسالة ارسلها السياب الى رئيس التحرير صديقه الاديب عبد المنعم الجادر , جاء فيها :
(ولا أكتمك يا صديقي أن نوعا من الود بدأ يأخذ طريقه بيني وبين عوالم المرض التي تحيط بي, نوع من السرور يسري في أعماقي وأنا أشاهد صحتي تتحسّن.
سنلتقي قريبًا, وسأطالبك بجلسة عند شاطئ دجلة بشارع أبي نواس, في ليلة نسامر فيها البدر, ليلة نسترجع فيها المطر قليلا, لنرتاح من طرقاته اللذيذة على أبوابها.
وكم أودّ جلسة أخرى في مقهى (الكسرة) نسترجع فيها ذكريات (الجلبية).
—————
٨
كانت حالات الغيبوبة تصيب السياب في أيامه الأخيرة, فيتكلم بلا وعي, وكان يقرأ الشعر مع نفسه باللغة الإنجليزية, ويشتهي أكلة (السمك المسقوف) تحت ضوء القمر وحبّات المطر, ويتمنى أن يرى عائلته قبل أن يدهمه الموت فجأة.
في يوم الخميس ٢٤ ديسمبر ١٩٦٤ , كانت سيارة الشاعر الكويتي علي السبتي متوجهة الى البصرة , تحمل جثمان صديقه شاعر العراق الكبير , بدر شاكر السياب .
توقفت السيارة عند مقبرة الحسن البصري بقضاء الزبير , لم يكن في موكب تشييعه سوى ستة اشخاص و المطر .
توقفت انفاس ابن جيكور الذي شغل العرب بشعره المعبأ بالالم و الحب و الثورة .
تم الاستعانة لكتابة هذا البودكاست بمقال للاستاذ عبد الجبار السامرائي