الرئیسیةمقالات

الدولة العراقية.. دولة بأي معيار؟

رعد أطياف :

بين الحين والآخر يتجدد نقاش الدولة مع بعض الأصدقاء. ونحاول قدر الإمكان إضفاء صفة “النخبة” على الجماعة التي تمسك بزمام الأمور، وتضطلع بمهمة تسيير الشؤون السياسية، وسن القوانين، وتحديد السياسيات، والتخطيط الاقتصادي، وغيره من الأمور التي تقع على عاتق رجال الدولة. ومن دون أدنى شك، لا يمكن الاستقرار السياسي طالما يتحول مستقبل البلاد إلى عرضة للعبة قمار مجهولة النتائج. تشتد خطورة هذه اللعبة ليس بوصفها مقامرة فحسب، وإنما لكون اللاعبين لا يجيدونها على الإطلاق! قد تعثر على مقامرين محترفين يمكنهم أن يغيروا النتائج لصالحهم، لكن كيف بمقامرين يجهلون أصول اللعبة؟!

ما يحدث في العراق هو مقامرة من النوع الذي لا يجيدها. وأنت كما ترى، مضى على هيمنة هذه “النخب السياسية” أكثر من عقدين، ولم نعثر على مؤشرات واضحة لبناء مؤسسات الدولة؛ المؤسسة الصحية تشكو من قدم بناها التحتية، والنظام الصحي في العراق لم يعد كسابق عهده حتى لو تراكمت الثروات الطائلة، والنظام التعليمي يومًا بعد يوم يتحول إلى مكائن عملاقة لطباعة الشهادات، والواقع الخدمي أشهر من أن يوّضح في عبارات، والفساد الإداري والسياسي أضحى مضربًا للأمثال لدرجة عدم اهتمام أصحاب القرار بهذا الوباء المرعب، كما لو أنه أصبح جزء من السلوك اليومي.

شيء غريب حقًا: ثروات طائلة دخلت البلد بفضل النفط، يقابلها فساد كوني مهول يتصدر العراق فيه قائمة الدول الفاسدة. هل يمكننا الآن أن نكتب بيقين لا يشوبه شك هذه المعادلة التالية، كونها أضحت من المسلمات في العراق: كلما ازداد معدل الثروة الوطنية ازداد معها عدد الفاسدين واللصوص؟! لكن، على أي حال، هذه المعادلة ليست جديدة، وإنما تجري ضمن سياق الدول الفاسدة، الدولة التي لا زالت تدار من قبل جيشين! وربما تُشترى فيها المناصب السياسية بأموال طائلة، والمؤسسة العسكرية الوطنية لا تمتلك الصلاحيات الكاملة لحق احتكار العنف، وحدودها قابلة للاختراق من الدول المجاورة في أي لحظة تشاء هذه الدول، مثلما تفعلها إيران، حين تضرب كردستان العراق بحجة تجسس الموساد، ومثلما تفعلها تركيا أيضًا عبر التحكم بمناسيب المياه، وبين الحين والآخر نشهد تصريحات خجولة بخصوص هذا الشأن لا تسمن ولا تغني من جوع سوى أنها ذر للرماد في العيون.

الشيء الخطير في هذا، أن التعدي على حدود العراق والتحكم بمناسيب مياهه أصبح حالة طبيعية، ولا نجد سوى بعض الأقلام المهمومة تكتب بخصوص هذا الشأن، لكن وبما أن الشعبوية هي الواجهة الأكثر انتشارًا في عراق اليوم، فقد تتسع رقعة الأخبار التافهة والخالية من المضمون، أما قضايانا الاستراتيجية لا نجد لها اهتمام يُذكَر.

بعد هذا العرض السريع والمختصر، يحار المرء بأي معيار يضع الدولة العراقية الجديدة؟ نقول جديدة لأنه جرى اقتلاع معظم جهازها الإداري ما بعد 2003 وتحطمت أوصالها تمامًا، وأعيدت هيكلتها مرة أخرى: مؤسسة عسكرية جديدة، ونظام إداري وسياسي جديد، ومؤسسة قضائية مستقلة. قد نختلف على عبارة “جديدة”، لكن نتفق على أن ماحصل ما بعد 2003 هو محاولة لبناء عراق جديد من قبل القوى المعارضة، ورافق عملية هذا “البناء” تدفق الثروات النفطية الطائلة، والحصيلة هي فوضى عارمة لا زلنا نتعايشها إلى الآن، فيبقى السؤال راهنًا عن المعايير التي نعتمدها لوصف الدولة العراقية الجديدة؛ هل هي دولة فتية؟ لكن علينا أن نثبت الدوافع الحقيقية لبناء الدولة لكي يصح أن نصفها بـ”الفتية”، ذلك أن الوقائع لا تشير إلى نية لبناء هيكل إداري محترف قادر على بناء هذه الدولة. يا ترى ما هي الرؤية التي تمتلكها النخب السياسية لبناء الدولة؟ لا ندري! ثمة شيء واحد قابل للتعريف، وهو أنها سلطة سياسية تعيش إنتاج نفسها في كل كرنفال انتخابي وتتوقف عند هذا الحد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *